أغلق    
             
                                 

 

الخطاب الذى وجهه مولانا الإمام الشيخ محمد إبراهيم محمد عثمان شيخ الطريقة

 
  أعلى الصفحة  

الى الأمة الإسلامية مساء الأربعاء الخامس من شهر أبريل عام 2018

 

(نسخة للطباعة)

 

 

  العـودة  

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدُ لله الخافض الرافع .. رفع الناس بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم، فهذا غنى وذاك فقير، وأشهد أن سيدنا محمد النور المبين والسراج المنير، أنزل الناس منازلهم فوقّر الكبير ورحم الصغير، ما رد سائلاً قط، بل جاد بالقليل والكثير، دعا قومه لنجاتهم فتطاول عليه كل مهين وحقير، ودارت الأيام دورتها وخضع الطغاة له فكان لهم راحم، ولم يعتب ولم يطلب التبرير، فهو النور الأعظم والرسول الأجل الأكرم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم المرسلين، وإمام الوارثين، مَن ختم الله به طريق الرسالة، وآلِه من بدأ بهم طريق الولاية، نجوم الاهتدا، وأصحابه مصابيح الدجى (من أَمَّهم يُكفى الردى) فكانوا أَوْلى الناس بالاتباع والاقتدا: قال مولاى:

نَعْتُ الْأَمَاجِدِ كَالنُّجُومِ وَنُورِهَا
 

 

بِهِمُ اهْتَدَى مَن ضَلَّ فِى الوِدْيَانِ
 

أما بعد ...

الأحباب من شتى البقاع ..

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته..

يقول سبحانه وتعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِىٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا]111 الإسراء ، قال مولاى:

سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ
 

 

لِيَجْعَلَ عَزْمِى فِى فَتِىِّ السَّوَاعِدِ
 

اعلموا أن رفعة الفرد وعلو شأنه ومكانته بين الناس إنما تكون بالعلم النافع والعمل الصالح، سواء كان لبناء مجتمعه الكبير وهو الوطن أو الصغير وهى الأسرة، أو للعمل لآخرته التى إليها المستقر والمآل، وتأتى الرفعة أيضاً مِن تحلِّى المرء بالأخلاق الحميدة، فالسمو والرفعة تتأتى للإنسان بطموحه لارتياد الآفاق البعيدة، وبالترفع عن صغائر الأمور، واعلم أن كل من كانت له رؤية واضحة فى خدمة العباد والبلاد وأولئك الذين ينذرون أنفسهم للقيم السامية والمبادئ الرفيعة، تتألق أسماؤهم وتلمع شخصياتهم ويصبح لهم ذكرى خالدة يسجلها التاريخ على مر العصور.

ومن كريم الأخلاق التى نستقيها من المعلم الأول صلوات ربى وسلامه عليه، حينما قال له رجل: ﴿دُلَّنِى عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِى اللَّهُ وَأَحَبَّنِى النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ازْهَدْ فِى الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِى أَيْدِى النَّاسِ يُحِبّوكَسنن ابن ماجه.

فالاستغناء عمّا فى أيدى الناس خُلق كريم، وأَوْلى بالمريد التخَلُّق به، فنظرك إلى ما فى أيدى الناس، إنما يفتح الطريق إلى الطمع وإلى ذميم الخصال، وأرشدنا مولاى الإمام فخر الدين بقوله:

كُنْتُ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ أَزْدَرِيهِ
 

 

مَا يَقُولُ النَّاسُ عَنِّى غَيْرَ أَنِّى
 

وقوله أيضاً:

إِنَّ مَيْتَ الشَّاةِ شَحْمُ
 

 

يَا مَنْ اسْتَغْنَى بِدُنْيَا
 

وفى (الإيقاظ) من حكم سيدى ابن عطاء الله :

وأما خواص الخواص فلم يحجبهم عن الله شىء، قطعوا حجب الوهم وحصل لهم من الله العلم والفهم، فلم يتعلّقوا بشىء ولم يحجبهم عن الله شىء، جعلنا الله منهم بِمَنِّهِ وكرمه، ولما كان الوهم ينشأ عن الطمع، والطمع ينشأ عنه الذل، والعبودية واليقين ينشأ عنهما الورع، والورع ينشأ عنه العز والحرية، نبّه عليه بقوله:

(أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت فيه طامع)

قلت إنما كان الإنسان حُرًّا مما أَيِسَ منه لأنه لما أَيِسَ من ذلك الشىء رفع همته عنه وعلّقها بالملك الحق، فلما علّق همّته بالملك الحق سَخَّرَ الحق تعالى له سائر الخلق.

والرفعة بالنسبة للأمم تُقاس بمدى تماسكها وترابطها ووحدتها، وتقدُّمها ورُقِيُّها، ولعل أهم ما يَضْرِب هذا الترابط والتماسك ويؤدى -والعياذ بالله- للفرقة ودرب التفريق، ما نراه من نشر الأكاذيب والشائعات التى تَخلِق مناخاً من الفوضى المجتمعية، فتؤثر على حال الأمة بأسرها، فتنال من رفعتها وتقدُّمها.

فوجب علينا تهيئة أهم بِنْيَة فى أساس المجتمع ألا وهى بِنْية (الفرد) فالتهيئة لابد أن تأتى من النشأ وهم (أطفالنا) فبدلاً من أن تتركهم وتترك للآخرين المجال فى التأثير عليهم، وانجرافهم نحو أفكار من شأنها الهدم وليس البناء، والتفريق وليس الوحدة، ويأتى يوما تحاول فيه أن تلغى ما قد تأصل فى نشأتهم فلا تستطيع، فكان الأحرى بك أن تهيئ المناخ لهذه البراعم المتفتحة بالتربية الصالحة، وتزويدهم بالعلم المفيد، ذلك للوصول إلى المُراد وهو بناء فرد نافع لمجتمعه وأسرته، ولصلاح دينه ودنياه، لأن العلم يكسو العبد أجمل حلة.

أحبابى فى رسول الله ..

نجد على مر الزمن أن الأشخاص الذين يؤثرون فى مجتمعاتهم، هم الذين نحتوا مكاناً لهم فى ذاكرةِ التاريخ، وهم مَن ذَكَرَهُمْ التاريخ بمحمود السيرة،

ضَحّوا وناضلوا من أجل إقامة العدالة واستيضاح الحق، وجعلوا من أنفسهم مضرب مثل لكافة الناس، فحجزوا مكانتهم السامية فى طليعة العظماء والخالدين، فيأخذ المرء موقعه فى نفوس الناس ويحفر اسمه فى سجلات التاريخ بمقدار ما حقّق من تقدم فى مجالات العلم. قال مولاى:

وَالْغَيْبُ عِنْدِى أَكْمَلُ الإِعْلَامِ
لِعُلُوِّهِ النَّخْلُ ذُو الْأَكْمَامِ
 

 

الْعِلْمُ شَأْنِى وَالْمُعَلِّمُ قُدْوَتِى
وَغِرَاسُ عِلْمِى فِى الْقُلُوبِ كَأَنَّهُ
 

وفى صحابة الرسول الكريم كان لنا فيهم القدوة فى علو الهمة، ولم تكن هِمَمُهُمْ قاصرة على الدين فحسب، بل كانت مضرب المثل فى شتى المجالات (العلم والإخاء والعفو والتسامح واتباع الحبيب وآثاره) وكانت هذه هِمة الأرواح التى تحيا بها القلوب، وقال فيهم المصطفى ﴿لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِالطحاوى فى مشكل الآثار.

وكانت الهمة العالية هى الطريق نحو الرفعة وسمو المقام عند الحق وبين الخلق، ومن هان عليه المال توجّهت إليه الآمال، ومن رقى فى درجات الهمم عَظُمَ فى عيون الأمم، ومن كَبُرَتْ همّته كَثُرَتْ قيمته.

وإذا تأملنا حياة العظماء فى المجتمعات المعاصرة والغابرة نجدهم ذوى همم عالية وتطلعات رفيعة، فمما لا شك فيه أن يَشْرئب الإنسان للمراتب العلا فى الدنيا ويتمناها فى الآخرة، والسبيل لذلك فى قول مولاى :

فَلْيَتَّقِ أَحْبَابِىَ الشُّبُهَاتِ
بَيْنَ الرِّجَالِ عُرِفْتُ بِالصَّفَحَاتِ
 

 

وَضَحَ السَّبِيلُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ
صَفْحًا إِذَا آبَ الْمُسِىءُ بِتَوْبَةٍ
 

فالقيم والمبادئ من أسباب الرفعة.. وكذا الأخلاق الحميدة والتربية، وتحيط بها خدمة الاخوان التى هى من الخصال المحمودة، فهنالك نوع من الترقى لا يأتى بالعبادة أو بالإنفاق، وإنما يتأتى بخدمة الإخوان، فعن الحبيب المصطفى قال: ﴿مَنْ مَشَى فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنَ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ، كُلُّ خَنْدَقٍ أَبَعْدُ مِمَّا بَيْنَ الْخافِقَيْنِالطبرانى فى الأوسط.

أما التدنى -والعياذ بالله- وسوء الخُلق واتباع الهوى والسير خلف الشهوات، فيجلب على الإنسان ما لا يُحمد عُقباه، وفى اتباع الهوى يقول الإمام الشَّعْبِىُّ:

(إنَّمَا سُمِّىَ الْهَوَى هَوًى، لِأَنَّهُ يَهْوِى بِصَاحِبِهِ).

وإن أبغض العباد إلى الله سبحانه وتعالى من كان همُّه بطنه وفرْجه، فعن سيدنا أبى الدرداء أن رسول الله سُئِلَ عن الراسخين فى العلم، فقال: ﴿من برَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعفَّ بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين فى العلمالحافظ السيوطى فى الجامع الكبير.

فأشد العباد بغضاً إلى الله تعالى هم المنغمسون إلى آذانهم بشهوتى البطن والفرْج، فما رفع شأن امرئ كهمته ولا وضعه شىءٍ كشهوته، وقيل:

(أول الشهوة طلب وآخرها عطب).

الجمع الكريم..

يتجدد بنا اللقاء، بذكر الإمامين الجليلين، سيدنا ومولانا الإمام فخر الدين وسيدنا ومولانا الإمام إبراهيم رضى الله عنهما، مَن بطيب الفِعال ومحمود الخصال ذُكروا، تتعطر المجالس بحديثهم، فكانوا ومازالوا مناراً للطريق، فَوَقْع حديثِهم فى الأذهانِ جارى، وَطَرْق أقوالهم فى المسامعِ والوجدان سارى.

رسموا المسار الصحيح للمسلم ليترقى درجات فوق أخرى بعيداً عن الشهوات، فيبتدئ بالعلم فقال جل شأنه [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]11 المجادلة، وقال حبيبنا المصطفى ﴿مَنْ طَلَبَ عِلْمًا فَأَدْرَكَهُ كَانَ لَهْ كِفْلاَنِ مِنَ الأَجْرِ فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنَ الأَجْرِ﴾السنن الكبرى للبيهقى، ففى كل الأمرين خير، فبالعلم تظهر معادن الناس، كما أخبرنا بقوله ﴿النَّاسُ مَعَادِنُ فِى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، خِيَارُكُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِى الْإِسْلَامِ، إِذَا فَقِهُوا﴾مسند الإمام أحمد، وها نحن نقف أمام قول مولاى الإمام فخر الدين :

نٌ لِلْقُلُوبَ يُخَضِّبُ
 

 

الْعِلْمُ غَثٌّ أَوْ سَمِيـ
 

فكان إنسان يُؤخذ منه فى هذا الميدان أصح الروايات، وأدق الإشارات، وأسمى العبارات فى النصح والإرشاد لوجه الله مأمون الجناب، وتحدث فى مناحى العلم، فتكلم فى التفسير والحديث والسيرة والطب والفلك وغيرهم من مختلف العلوم، وكان علمه هو العلم الموصول، فحقاً (علمتُ ولى علمٌ بعلم معلمى).

وبالعلم يأمن المسلم من لدغات شياطين الإنس، التى لا تُودِى بحياته فحسب بل تُودِى بِدِينه ودنياه، فلا يكون له من هذا الباب سبيلاً للدخول، بل إذا ولج باب العلم يُفتح له بعده باب العمل، كما قيل (فَمَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ فَتَحَ اللهُ لَهُ مَا لَا يَعْلَمُ) وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: (أَجْهَلُ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ مَا يَعْلَمُ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ، وَأَفْضَلُ النَّاسِ أَخْشَعَهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).

ولا ينتهى العمل بالمسلم عند هذا الحد، بل يوصله إلى حلقة أخرى لتكتمل الثمرة وتُفيد وتَستفيد، فَيَزُج به إلى (المعاملات) ويحدّثنا الصادق الأمين بقوله ﴿إنَّ للمسلمِ على أخيهِ المسلمِ مِن المعروفِ سِتًّا: يُسَلِّمُ عليه إذا لقيَه، ويَعُودُه إِن مرضَ، ويُشْمِتُه إذَا عَطَس، ويَشهدُهُ إذا ماتَ، ويُجيبُه إذَا دعاهُ، ويُحِبُّ له ما يُحِبُّ لنفسِه، ويكرهُ له ما يكرهُ لنفسِه﴾سنن الترمذى.

وبعد أن تَنَقَّل المسلم من العلم إلى العمل وانتهى به المآل إلى المعاملات، تأتى الطريقة لتبنى فوق هذا البناء صرحاً أساسه حميد الأخلاق وكريم الخصال، ويَسْطَعْ نَجْم هذا الأمر عند شروع المؤمن فى الدخول إلى مقام (التوفيق) بحثاً عن إصلاح أمره قدر الاستطاعة، فقال سبحانه وتعالى [...إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ...]88 هود.

فكان صلاح المرء وتوفيقه بأن يعمل دوماً على اتباع الحبيب ، كما أمر المسلمين أن ينظروا إلى صلاته فقال ﴿صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى﴾صحيح ابن حبان، فأَوْلى بالمؤمنين أن يتخلقوا بـ(أخلاقه) وأن يلتحقوا بها، فخُلُق رسول الله هو أوْلى الأخلاق التى يوفِّق المرء معها أخلاقه، وقد وصفه الحق فى محكم التنزيل بقوله [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]4 القلم، وكان الخُلق الحسن شطر وصيته لسيدنا مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضى الله تعالى عنه عندما قَالَ ﴿قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِى، قَالَ: اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ﴾مسند الإمام أحمد، ومظهر الأخلاق الكريمة -أى الآداب- الذى نجده علامةً للمستقدمين، كما أخبرنا مولاى فخر الدين:

فَعَلَامَةُ الْمُسْــــتَقْدِمِيـ
 

 

نَ  مَعَ الْكِرَامِ تَأَدُّبُ
 

ومن أوكد الآداب هو الأدب مع رسول الله الأمر الذى أفرد له الحق فى الكتاب العزيز العديد من الآيات، وها هى سورة الحجرات خير شاهد، ولأن ديدن أهل الزيغ فى كل عصر الالتواء والالتفاف بالنصوص ليحققوا بها مُرادهم، فتجدهم بدعوى إقامة أمر من أوامر الحق أو سُنَّة من سنن الحبيب يلبثون الحق بالباطل، فقديماً تجرؤوا ونادوا بحرمة السيادة لغير (الله) حتى للحبيب المصطفى ، فلما اصطدموا بتوافر نصوص الكتاب والسنة، علت أصواتهم بالسيادة، ولكنهم جنحوا إلى مَنْحَن آخر فآخر، قد لا يطول الإنتظار وتشهدونه، يأمرون الناس بكثرة الذكر على الحبيب وتعظيم آل بيته فقط يطلقون عليها الشئ الشرعى كما هو ديدنهم.

ونجد نجوم الهداية دائما ما ينيرون لنا الطريق، فعندما أشار مولاى الإمام فخر الدين إلى (السَّيِّدُ الْعَبْدُ وَالْإِنسَانُ) مُنادياً فيه (الرَحْمَةً والقُدْوَةً) بعد أن همس قائلاً (يَا سَيِّدِى) أنت (لِلسِّيَادَةِ رَبُّ) فقد قلت (وَقَوْلُكَ هَدْىٌ) بأن الذخيرة متمثلة فى عترة الخلفاء حاملين فيهم عطاء وهدى سيد الأنبياء (فَكُنْ يَا مُرِيدِى لِلْكِرَامِ مُقَلِّدًا) فحقًّا (السَّادَةُ الْأَقْطَابُ فِينَا أَنْجُمٌ).

فالانتباه لهذا الأمر واجب حتمى، فمن ذكر اسم الحبيب مُجرداً من السيادة، فلينتبه لأن ﴿الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ﴾مسند الإمام أحمد، واحذر قول الحبيب المحبوب عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام ﴿...وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا...﴾سنن ابن ماجه، فانظر فى أى الفريقين تضع نفسك.

ولعلنا نجد من يقول فى هذا الزمان: هل هذا الأمر جوهرى لكى نعوّل عليه فى تلك الفترة من حياتنا؟ وفى ظل كل الصعوبات التى تواجه الناس فى أمور حياتهم؟ نقول لهم إذا عدّدنا الآداب وقلنا بالمفهوم السابق، فتركناها لوجود ما هو أهم منها، لأصبح الناس أمام مجتمع فوضوى لا أخلاق فيه، فأدبك مع الحبيب إنما هو ركيزة ونواة لباقى الآداب، فيفتح لك أبواب آدابك مع والديك، وأدبك فى الحوار، حتى ينتهى أدبك إلى الحيوان أى الرفق به، ونجد سيدى ابْن المبارك يقول: (طلبنا الأدب حِينَ فاتنا المؤدّبون) وقيل: ثَلاث خصال لَيْسَ معهن غربة: مجانبة أهل الرِّيَب، وحُسْنُ الأدب، وكف الأذى، وقيل فى المعنى:

يُزَيِّنُ الغَرِيب إِذَا مَا اغترب
وثانيه حُسْن أخلاقِهِ
 

 

ثَلاثٌ فَمِنْهُن حُسْنُ الأدب
وثالثه اجتناب الرِّيَب
 

ولما دَخَلَ أَبُو حفص بغداد، قَالَ لَهُ الإمام الجنيد: لَقَدْ أدَّبت أَصْحَابك آداب السلاطين، فَقَالَ أَبُو حفص: حُسْنُ الأدب فى الظاهر عنوان حُسْن الأدب فى الباطن.

فتوحيد الأمة نوع من الرقى والرفعة، لإظهار سماحة الدين وعدالته، فبدلاً من اتِّهام الآخرين بالكفر والإلحاد علينا إظهار محاسن ومكارم الأخلاق المتمثلة فى أقوال وأفعال وإشارات سيد الأكوان (أَحْمَدُ مَنْ حَمَدْ) الذى أثنى كل الخير على الأنبياء والرسل السابقين، وخير دليل تذييل سورة البقرة بأن الحبيب آمن بما (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) وكذا المؤمنون (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) والكل لا يفرقون (بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).

فلا يأتى الصلاح من تلقاء نفسه، بل من مجاهدة النفس ومحاسبتها، فيتجلى دور الأوراد للقيام برحلة إصلاح المضغة التى من شأن صلاحها صلاح سائر الجسد، وبفسادها يفسد سائر الجسد، فما أن صَلُحَتْ هذه المضغة، ارتحل المؤمن إلى الأمر الذى من أجلِهِ كان ما كان، ألا وهو (السير) وقال الإمام النابلسى (إلى الذات سيرى فى مراتب أسماءِ) فيدخل المريد فى مبادىء الإحصاء، من بعد التعب والعناء، ليهنأ بالتقريب والعيش الرغيد.

ما ذكرناه هو حال السائرين ترتفع فتنخفض درجاتهم بحسب ما اجتهدوا للوصول إليه من عزم قوى وهمة عالية ومجاهدة النفس والدنيا والشيطان والهوى، وشتان بين المحب والحبيب، وبين المريد والمُراد:

فَأَيْنَ مُحِبٌّ مِنْ حَبِيبٍ وَمُوصَلٍ
 

 

وَأَيْنَ مُرِيدٌ مِنْ مُرَادٍ وَثَابِتِ
 

فحال السائرين المكابدة والمجاهدة لنوال حسن المآب، وحال المصطفين كما أخبر عنهم الحق سبحانه [إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ¤ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ]46، 47 ص، لا بسابق أمر قدّموه أو بقديم فعل أتوه، بل لسابقتهم الأزلية عند الحق، قال مولاى:

وَيُمْنَحُ قَدْرًا لَا بِجَهْدٍ وَهِمَّةٍ
 

 

لِيُصْبِحَ مَأْمُولَ القُلُوبِ الحَظِيَّةِ
 

فكانت نهاية منازل الذاكرين هى مضاجع أحوال المُصطفين وبداياتهم:

مَنَازِلٌ قُدِّرَتْ لِلذِّكْرِ أَجْمَعِهِ
 

 

وَبَعْدَهَا نُصْطَفَى هَذِى بِدَايَتُـنَا
 

أحباب رسول الله..

عندما قال الإمام فخر الدين (اللهُ مِنْ بَعْدِ الزِّيَادَةِ زَادَنِى) زعم البعض زوراً وبهتاناً أن معنى الزيادة هنا (زيادة تتم النقص) فصحح فهمهم بقوله (وَلَا زَعْمٌ بِأَنِّى زِيدَ قَدْرِى) فكانت الزيادة المقصودة هنا زيادة (المعارف الإلهية والمعانى الربانية) التى لا تنتهى، من باب قوله تعالى [وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى]سورة الضحى، فكشف عن الفهم الراقى لترقى خلفاء الحبيب ، فحقاً:

وَأَعْرِفُ أَقْدَارَ الرِّجَالِ جَمِيعِهِمْ
 

 

وَلَكِنَّهُمْ ضَلُّوا ابْتِدَاءَ مَكَانَتِى
 

وحذّر من فتح هذا الباب فقال:

وَعَنْ مَنَازِلِنَا أَمْسِكْ فَإِنَّ لَهَا
 

 

صَحَائِفٌ أُودِعَتْ أَيْدِى أَئِمَّتِنَا
 

فحديثه دواء لكل داء، وهادى لكل باغٍ، وإرشاد لكل ضال، فكان حقًّا علينا أن نُعَلِّم عنه، لإنه من رجال جدهم هادى الهداة الكاملين.

وحين يقترب الوقت ليضع خاتمة لنهاية يوم مضى وبداية آخر جديد، تقترن حبَّات الزمان بنفحاتٍ كحبات اللؤلؤ والمرجان، فننظر بين دفتى كتاب الأيام ليطل علينا أبهى منظر بتعانق حولية الإمامين الجليلين مع مولد إنسان العين، ديَّار الرضا، حلاَّل العُقَدْ، حُجة التوحيد، عالِ القدْر، قطب الأقطاب، العارف بالله سيدى إبراهيم القرشى الدسوقى رضى الله تعالى عنه وقد أوجز الإمام سيدى فخر الدين بصريح العبارة التى تحمل فى طيّاتها مكنون الإشارة حين قال عنه (إِنَّهُ السَّائِرُ بِى نَحْوَ الرَّشَدْ).

ويزداد الحُسن زهواً وبريقاً بأرواح رقصت وغرّدت حين ازداد العِناق وتشابكت نفحات الدهر بمولد صاحب الرمحين مع منحة (الإسراء) التى اجتمعت بفرد الأربع الحُرُمِ، لتزدان أيام دهر الزمان، الذى كان فيه جزيل العطاء، وزاده من الرفعة والتكريم بأن حملت فيه السيدة آمنة بسيد الأولين والآخرين، وتكتمل الصورة حُسْناً على أهل السموات العلا برؤية مرآة ذات الحُسن، فنالوا من الشرف بهذه الرؤية ما نالوه، قال مولاى:

الْقَدْرُ فِيهِ لِكُلِّ ذِى قَدْرٍ إِذَا
 

 

سَكَتَ الرَّعِيَّةُ عَنْهُ وَالْأُمَرَاءُ
 

حقًّا إن الماء العذب كثير الورود، فإن لم يكن ماؤنا من مائه وكذا، لما سرينا ولا سرنا ولا علمت عنا الروابى، فالماء غزير، والوارد كثير، فهلا شمّرتم عن سواعدكم وتزاحمتم ووقفتم على أعتاب أبواب الفضل لتكونوا مرآة حُسن للناظرين، ليرفع الله قدْرَكم، ويحط عنكم أثقالكم، حال أن تكونوا سفراء للطريق .. وكثيراً ما لاح مولاى كمال الدين الشيخ إبراهيم أن نكون سفراء خير، فمن وصاياه أنه قال:

أعظم ما يقدمه كل برهانى للطريق، التفوق فى الآداب والتعامل مع الآخرين وبالأخص، أبناء العموم، والتفوق فى العمل والدراسة وشئون البيت، وفى معاملتك مع والديك والزوجة والأبناء، والتفوق أيضاً فى احترام الكبير وفى تربية الصغير.

والتفوق فى أورادك ومحبتك وأدبك مع شيخك وتواصلك مع أبناء الطريق، والفهم الراقى لآداب وسماحة الطريق، حيث أنك تُمثّل الطريق فى مجتمع العمل والأسرة والحى، وبالتالى تصبح سفيراً للطريق، لذلك كان لزاماً عليك أن تكون متفوقاً فى أدبك وتعاملك وكلامك، فالتفوق يأتى بالعزم والمواظبة على الأوراد وطاعة أولى الأمر وبذلك تكون أُشْعلت فى داخلك نار المحبة.

ومازلنا مع ما تهواه النفوس وترتاح له القلوب وهو الحديث عن سماحة سيد الخلق ، فآيات محبته وإيثاره وصبره على أذى الخَلق تغزو القلوب والأرواح، فنستفيد من هذه الدروس وتكون نبراساً لنا فى دينِنَا ودنيانا.

وكما أن المصائب تجمعن المصابين، فطريق الحب يجمع المحبين، وإذا استحكم الوجد بالقلب اصْطَلَتْ الروح:

وَالْوَجْدُ يُلْقِى فِى الْقُلُوبِ وَدَاعَةً
 

 

رُوحُ الْمُتَيَّمِ تَصْطَلِى بِهُيَامِى
 

فطريق الحب طويل ومراتبه كثيرة (وما هو إلا الحب بغية قانِتِ) فبداية الخلق بالحب، وبداية الدعوة إلى الله بالحب، وأساس الدين أيضاً مبنى على الحب، فيترحل المرء من مراتب الحب إلى أن يَسْتَقِلَّ بقلبه، ليصل به إلى منتهى الأمر بين الخلق، فيصله الحق بحبه وإرادته، ووضح مولاى الإمام فخر الدين بالتمسك بدستور الطريق، فجاء من إشاراته فى إحدى فرائده (كل من جاء بقول غير نظمى فهو رد) ونتعلم من هذا أن الأمر ليس للعلوم فقط، فالطريق محفوظ من الغير والأغيار، ورشاد الأمة فى الوصول إلى الفهم الراقى للطريق وعلومه، ليتوج العمل بتاج حُسن الختام، والسير فى خطى ثابتة بكل جِدٍ وجَدٍ نحو علاَّم الغيوب فى حضرة المحبوب.

وكالحال وكل عام لنا شعار لذكرى الإمامين الجليلين، فيقول مولاى سيدى فخر الدين فى نظمه الفريد:

رَفَعَ اللهُ لِلْمُتَيَّمِ قَدْرًا
 

فبدا فى هذا القدر يركض الأولياء حتى الفناء، فأولهم باغٍ وآخرهم فنا

وصلِّ الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

وكل عام وأنتم بخير

¤¤¤

 
  العـودة