ننصحك وأنفسنا بالابتعاد عن الجدل الذى لا طائل وراءه فلن يفعل هؤلاء إلا أن يشككوك
فيما تعلم وينقلوا إليك جهلهم فما حديث الرزية إلا تفسيرا خاصا لهم بأن النبى
كان سيوصى بالخلافة للإمام على
،
وهذا غير صحيح كما هو ثابت فى باقى الأحاديث، ولكن لكل من الأئمة دوره وميعاده،
وميعاد الأمام على
؛
باب مدينة العلم هو فتنة المسلمين، فمن أكثر منه علما حتى يتصدى لهذه الفتنة، وكذلك
كان موعد الحسنين
فهذا موطن الجهاد الأعظم؛ ألا وهو درء الفتنة عن المسلمين؛ والأعجب من هذا أن تجد
من يدعى حب الأمام على وأئمة أهل البيت الحسنين
أجمعين ويسعى إلى فتنة المسلمين!!!
الأخ الفاضل: أكرمك الله وبارك فيك وعافاك من الجدل مع أهل الجدل، إحذر أخى فأنت
تعطيهم علمك ويعطونك جهلهم، أنت تنير لهم الطريق فيظلمون عليك الدنيا، فالحذر كل
الحذر، فلن تكسب منهم شيئا.
نحن سنجاوب على أسئلتك لك فقط، وحرصا عليك حتى لا يؤثروا فيك بكلامهم، ولكن احذر
فهذه هى مزلة الأقدام، وكما قال شيخنا: عزل الكرام مزلة الأقدام.
أما بعد:
نص
الحديث من كتاب شرح النووى لصحيح مسلم تأليف الإمام النووى فى باب الوصية:
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ
:
يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمّ بَكَىَ حَتّىَ بَلّ دَمْعُهُ
الْحَصَىَ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبّاسٍ وَمَا يَوْمُ الْخِمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدّ
بِرَسُولِ اللّهِ
وَجَعُهُ، فَقَالَ: (ائْتُونِى أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلّوا بَعْدِى)
فَتَنَازَعُوا، وَمَا يَنْبَغِى عِنْدَ نَبِى تَنَازُعٌ، وَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟
أَهَجَرَ؟ -بمعنى هذى بسبب مرض الموت- اسْتَفْهِمُوهُ، قَالَ: (دَعُونِى، فَالّذِى
أَنَا فِيهِ خَيْرٌ، أُوصِيكُمْ بِثَلاَثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ
جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ)،
قَالَ: وَسَكَتَ عَنِ الثّالِثَةِ أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتهَا.
وفى رواية أخرى: عن مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَمّا حُضِرَ
رَسُولُ اللّهِ
–حُضِر أى حضره الموت ويقصد أنه كان فى الأيام التى انتقل فيها– وَفِى الْبَيْتِ
رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ النّبِى
:
(هَلُمّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلّونَ بَعْدَهُ)، فَقَالَ عُمَرُ: إنّ
رَسُولَ اللّهِ
قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ
اللّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:
قَرّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ
كِتَاباً لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ:
فَلَمّا أَكْثَرُوا اللّغْوَ وَالاخْتِلاَفَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ
،
قَالَ رَسُولُ اللّهِ
:
(قُومُوا). قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: إنّ الرّزِيّةَ
كُلّ الرّزِيّةَ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ
وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ، مِنِ اخْتِلاَفِهِمْ
وَلَغَطِهِمْ.
وفى شرح هذا الحديث يقول الإمام النووى:
قوله: (فقال عمر
:
إن رسول الله
قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا) ثم
ذكر أن بعضهم أراد الكتاب وبعضهم وافق عمر، وأنه لما أكثروا اللغو وإِلاختلاف قال
النبى
قوموا.
اعلم أن النبى
معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية فى حال صحته وحال مرضه، ومعصوم من
ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصوماً من الأمراض
والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من
شريعته، وقد سحر
حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيئ ولم يكن فعله ولم يصدر منه
،
وعلى الرغم من هذا الحال كلام فى الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التى قررها،
فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء فى الكتاب الذى هم النبى
به فقيل أراد أن ينص على الخلافة فى إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل أراد
كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل إِلاتفاق على
المنصوص عليه، وكان النبى
هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحى إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحى
إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول.
وأما كلام عمر
فقد اتفق العلماء المتكلمون فى شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر
وفضائله ودقيق نظره لأنه خشى أن يكتب
أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها
فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: ﴿ما فرطنا فى الكتاب من شيء﴾ وقوله: ﴿اليوم
أكملت لكم دينكم﴾ فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد
الترفيه على رسول الله
فكان عمر أفقههم. قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقى فى أواخر كتابه دلائل النبوة:
إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله
حين غلبه الوجع ولو كان مراده
أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى: ﴿بلغ ما أنزل
إليك﴾ كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وكما أمر فى
ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره فى الحديث. قال البيهقى:
وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه
أراد أن يكتب استخلاف أبى بكر
ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب فى أول
مرضه حين قال وارأساه ثم ترك الكتاب وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، ثم
نبه أمته على استخلاف أبى بكر بتقديمه إياه فى الصلاة. قال البيهقى: وإن كان المراد
بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى: ﴿اليوم أكملت
لكم دينكم﴾ وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفى الكتاب أو السنة بيانها
نصاً أو دلالة، وفى تكلف النبى
فى مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة، ورأى عمر إِلاقتصار على ما سبق بيانه إياه
نصاً أو دلالة تخفيفاً عليه، ولئلا ينسد باب إِلاجتهاد على أهل العلم والاستنباط
وإلحاق الفروع بالأصول، وقد كان سبق قوله
:
(إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) وهذا دليل على أنه
وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء وجعل لهم الأجر على إِلاجتهاد فرأى عمر الصواب
تركهم على هذه الجملة لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد مع التخفيف عن النبى
،
وفى تركه
الإنكار على عمر دليل على استصوابه.
قال الخطابى: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله
أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال، لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله
من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله
المريض مما لا عزيمة له فيه فتجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام فى الدين، وقد
كان أصحابه
يراجعونه فى بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم كما راجعوه يوم الحديبية فى الخلاف
وفى كتاب الصلح بينه وبين قريش، فأما إذا أمر بالشىء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد
منهم، قال الخطابى: وقد روى عن النبى
أنه قال: (اختلاف أمتى رحمة) فاستصوب عمر ما قاله.
وقال المازرى: إن قيل كيف جاز للصحابة الاختلاف فى هذا الكتاب مع قوله
:
(ائتونى أكتب) وكيف عصوه فى أمره؟ فالجواب أنه لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن
تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال أصلها للندب، ومن الوجوب إلى الندب عند من
قال أصلها للوجوب، وتنقل القرائن أيضاً صيغة افعل إلى الإباحة وإلى التخيير وإلى
غير ذلك من ضروب المعانى، فلعله ظهر منه
من القرائن ما دل على أنه لم يوجب عليهم بل جعله إلى اختيارهم، فاختلف اختيارهم
بحسب اجتهادهم وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد فى الشرعيات فأدى عمر
اجتهاده إلى الامتناع من هذا، وقال القاضى عياض: وقوله أهجر رسول الله
هكذا هو فى صحيح مسلم وغيره أهجر على الاستفهام لأن معنى هجر هذى، وإنما جاء هذا من
قائله استفهاماً للإنكار على من قال لا تكتبوا أى لا تتركوا أمر رسول الله
وتجعلوه كأمر من هجر فى كلامه لأنه
لا يهجر، وقول عمر
:
حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبى
والله أعلم. قوله
:
(دعونى فالذى أنا فيه خير) معناه دعونى من النزاع واللغط الذى شرعتم فيه فالذى أنا
فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه والفكر فى ذلك ونحوه أفضل مما أنتم فيه.
قوله
:
(أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) قال أبو عبيد: قال الأصمعى جزيرة العرب ما بين
أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق فى الطول، وأما فى العرض فمن جدة وما والاها إلى
أطراف الشام.
قوله
:
(وأجيزوا الْوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال العلماء: هذا أمر منه
بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة
قلوبهم ونحوهم وإعانة على سفرهم. قال القاضى عياض: قال العلماء سواء كان الوفد
مسلمين أو كفاراً لأن الكافر إنما يفد غالباً فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم.
قوله: (وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها) الساكت عن ابن عباس والناسى سعيد بن
جبير، قال المهلب: الثالثة: هى تجهيز جيش أسامة
،
قال القاضى عياض: ويحتمل أنها قوله
:
(لا تتخذوا قبرى وثناً يعبد) فقد ذكر مالك فى الموطأ معناه مع إجلاء اليهود من حديث
عمر
.
وفى هذا الحديث فوائد سوى ما ذكرناه:
§
منها جواز كتابة العلم وقد جاء فيها حديثان مختلفان فإن السلف اختلفوا فيها ثم أجمع
من بعدهم على جوازها وبما يوافق تأويل حديث المنع.
§
ومنها جواز استعمال المجاز لقوله
:
أكتب لكم أى آمر بالكتابة.
§
ومنها أن الأمراض ونحوها لا تنافى النبوة ولا تدل على سوء الحال.
وقد زاد فتح البارى فى شرح صحيح البخارى، للإمام ابن حجر العسقلانى:
ويؤخذ من هذا الحديث أن الأدب فى العيادة أن لا يطيل العائد عند المريض حتى يضجره،
وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه.
وفى مسند الإمام أحمد:
من حديث على
أنه المأمور بذلك ولفظه (أمرنى النبى
أن آتيه بطبق - أى كتف - يكتب ما لا تضل أمته من بعده).
قوله: (غلبه الوجع) أى فيشق عليه إملاء الكتاب أو مباشرة الكتابة، وكأن عمر
فهم من ذلك أنه يقتضى التطويل، قال القرطبى وغيره: ائتونى أمر، وكان حق المأمور أن
يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر
مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من
ذلك ما يشق عليه فى تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: (ما فرطنا فى الكتاب من
شيئ) وقوله تعالى: (تبيانا لكل شيئ)، ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله.
وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمنه من زيادة
الإيضاح، ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش
بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم
يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه فى بعض الأمور ما لم يجز
بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. وقد عد هذا من موافقة عمر
.
واختلف فى المراد بالكتاب، فقيل: كأن أراد أن يكتب كتابا ينص فيه على الأحكام
ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينص على أسماء الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم
الاختلاف، قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده أنه
قال فى أوائل مرضه وهو عند عائشة: (ادعى لى أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإنى أخاف
أن يتمنى متمن ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) أخرجه مسلم.
قوله: (ولا ينبغى عندى التنازع) فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال
الأمر، وإن كان ما اختاره عمر صوابا إذ لم يتدارك ذلك النبى
بعد كما قدمناه.
قال القرطبي: واختلافهم فى ذلك كاختلافهم فى قوله لهم: (لا يصلين أحد العصر إلا فى
بنى قريظة) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف
أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ والمقصد الصالح.
قوله: (الرزيئة) هى بفتح الراء وكسر الزاى بعدها ياء ثم همزة، وقد تسهل الهمزة
وتشدد الياء (الرزيَّة)، ومعناها المصيبة، وزاد فى رواية معمر "لاختلافهم ولغطهم"
أى أن الاختلاف كان سببا لترك كتابة الكتاب.
وفى الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببا فى حرمان
الخير كما وقع فى قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك.
ومن كتاب الملل والنحل، لأبى الفتح الشهرستانى:
قال: وأما الاختلافات الواقعة فى حال مرضه عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته بين
الصحابة
،
فهى اختلافات اجتهادية كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع، وإدامة مناهج
الدين.
§
فأول تنازع وقع فى مرضه
فيما رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى بإسناده عن عبد الله بن
عباس
،
قال: (ائتونى بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى)، فقال عمر
:
إن رسول الله
قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط، فقال النبى
:
(قوموا عنى لا ينبغى عندى التنازع)، قال ابن عباس: الرزية كل الرزية، ما حال بيننا
وبين كتاب رسول الله
.
§
الخلاف الثانى فى مرضه أنه قال: (جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه)، فقال
قوم: يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز من المدينة، وقال قوم: قد اشتد مرض
النبى
فلا تسع قلوبنا مفارقته، والحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أى شيئ يكون من أمره.
وإنما أوردنا هذين التنازعين فقط من جملة ما ذكره أبو الفتح؛ لأن المخالفين ربما
عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة فى أمر الدين، وليس كذلك، وإنما الغرض كله: إقامة
مراسم الشرع فى حال تزلزل القلوب، وتسكين ثائرة الفتنة المؤثرة عند تقلب الأمور.
الخلاصة:
§
أن
الإمام عمر بن الخطاب
كان يبغى التخفيف على النبى
فى مرضه وكان يعلم نية النبى
فى ولاية أبى بكر وكان يعلم أن ذلك موجود مثبت فى كتاب الله وكان يعلم أن المنافقين
سوف يشككون فيما يحدث من النبى على فراش موته وكان يعلم أن الصحابة كلهم قلوبهم مع
دين النبى
فلا خوف منهم ولا من ضلالهم، مع العلم بأنه لم يكن يشك لحظة فى أن النبى يمكن أن
يفارقهم وقد دل على ذلك قوله: "من قال أن محمدا قد مات قاتلته بسيفى هذا".
§
أن
مسألة خلافة سيدنا أبى بكر للنبى
كانت أمرا معروفا لا خلاف عليه، ويتضح ذلك من الأحاديث المختلفة للنبى
،
فعن عبد الله بن زمعة قال: لما استُعزَّ برسول الله
وأنا عنده فى نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة فقال: (مروا من يصلى للناس)،
فخرج عبد الله بن زمعة، فإِذا عمر فى الناس، وكان أبو بكر غائباً فقلت: يا عمر، قم
فصلِّ بالناس فتقدم فكبَّر. فلما سمع رسول الله
صوته وكان عمر رجلاً مجهراً، قال: (فأين أبو بكرٍ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون يأبى
الله ذلك والمسلمون) فبعث إلى أبى بكر، فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة، فصلّى
بالناس. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن زمعة أخبره بهذا الخبر
قال: لما سمع النبى
صوت عمر، قال ابن زمعة: خرج النبى
حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: (لا، لا، لا، ليصلِّ للناس ابن أبى قحافة) يقول ذلك
مغضباً.
§
أما الأمام عبد الله بن العباس
حبر الأمة فكل ما أحزنه علمه بالفتن المحدقة بهذه الأمة وعلمه بضعف الناس وخشيته
عليهم وهو ما دفعه لهذا القول، والأهم أنه ما كان ليلوم الأمام عمر بن الخطاب ولكنه
كان يلوم الاختلاف لأن الناس لو سكتوا لراجع النبى
الأمام عمر ولأمره بالكتاب وكان سيكون فيه الفصل وتحديد الخلافة وتحديد حب أهل
البيت، وبالتالى فالرزية عند الإمام ابن العباس هى الاختلاف الذى منع أن يكون عندنا
كتاب من النبى
يمنع الضلال.
§
والجدير بالذكر أن النبى
أورد أحاديث عده عما يدفع الضلال عن المسلمين ولكنهم لا يزالون يختلفون، وهذه
الأحاديث متوافقة مع كلام الإمام عمر
،
مثل حديث (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا؛ كتاب الله وأهل بيتى
عترتى ... الحديث) وقد ورد الحديث على هذا المعنى فى روايات متعددة -مسند
الأمام أحمد والطبرانى والمتقى الهندى ومجمع الزوائد والبداية والنهاية-
وفى روايات أخرى (... كتاب الله وسنتى ...)-السيوطى
والمتقى الهندى وأبجد العلوم والبداية والنهاية-،
ولا تعارض بين الروايتين حيث أن أهل بيته
هم أكثر الناس اتباعا وحفظا لسنته، ومن هنا نجد شيئين رئيسيين: أولا: توافق كلام
النبى
مع كلام الإمام عمر
فى أنه قال عندكم القرآن وحسبنا كتاب الله، وثانيا: أن الوصية واضحة فى التمسك
بكتاب الله وأهل بيت النبى
ويلحق بهم بعدهم الصحابة والتابعين والصالحين ففيه احترام أئمة المسلمين الحافظين
لسنته
.
§
وعلى الجانب الآخر نود إلى الإشارة إلى كيفية احترام الصحابة لبعضهم البعض كامتداد
لاحترامهم للنبى
ولقربهم منه: فهذا الإمام على
حينما بلغه أن الإمام عمر بن الخطاب
توفى وأنهم دفنوه وكان الإمام على
خارجا عن المدينة وقتها، فما كان منه إلا أن قال: "لو كنت موجودا لدفنته قائما"
فقالوا له أتدفنه قائما؟! فقال: "نعم، اضجع عمر فاضجع الحق معه" - هذا هو الإمام
على أستاذ الإمام ابن عباس الذى كان يحفظ عنه كل كلامه، فكيف يكون منتقدا لما فعله
الأمام عمر
أجمعين. |