مشروعية زيارة قبور الصالحين والصلاة فى مساجدهم:
جاء فى كلام العلامة أبو عبد الله العبدرى المشهور بأبى الحاج المالكى فى كتابه
المدخل: "روى البخارى عن أنس
أن عمر بن الخطاب
كان إذا قحطوا استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك
فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فيسقون" ... لذلك فالتوسل بالصالحين لقضاء
الحوائج ومغفرة الذنوب جائز ومندوب، لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم،
وكما نفع بهم فى الدنيا ففى الآخرة أكثر، وقد توسل
بالآدميين الأموات فى حديث وفاة السيدة فاطمة بن أسد أم الإمام على
،
حين نزل الرسول
معها فى القبر ودعا: (اللهم إغفر لأمى بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلى ...) -الحافظ
الهيثمى والمتقى الهندى-
وهؤلاء العظماء أحياء فى قبورهم لأن الحديث: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد
الأنبياء) -أحمد
في مسنده وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه وابن ماجة والحاكم في المستدرك-
والعلماء بالله ورثتهم كما جاء فى الحديث: (العلماء ورثة الأنبياء) -أبو
داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه-
وإذا كان الشهداء تصريح الآيات أحياء، فالأولياء والصالحون أولى لما لهم من المكانة
عند ربهم حين قال فيهم: ﴿لاخوف عليهم ولاهم يحزنون لهم ما يشاءون عند ربهم﴾، وغير
ذلك كثير والأحاديث فى شرعية التوسل وكرامة بعض الخلق عند الله أكثر من غيرهم
وإجابته لهم على وجه الخصوص أكثر من أن تعد، ومنها: (رب أشعث أغبر لو أقسم على الله
لأبره) الحاكم
في المستدرك وأبو نعيم في الحلية،
(لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا)، (بسم الله ربنا،
وبريقة بعضنا وتربة أرضنا يشفى ربنا).
ولايعترض معترض على ماذكر ويمنع الزيارة لحديثه
:
(لاتشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى) لأن
الإمام الغزالى فى كتاب إحياء علوم الدين فى الجزء الخاص بآداب السفر قال: "إن من
القسم الثانى من السفر المندوب أن يسافر لأجل العبادة: إما الجهاد أو الحج، ويدخل
فى جملته زيارة قبور الأنبياء وقبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء،
وكل من يتبرك بمشاهدته فى حياته يتبرك بزيارته بعد موته، ويجوز شد الرحال لهذا
الغرض، ولايمنع من هذا قوله
:
(لاتشد الرحال ... الحديث) لأن ذلك فى المساجد لأنها متماثلة بعد هذه المساجد
الثلاثة ولافرق بين زيارة الأنبياء والأولياء والعلماء فى أصل الفضل، وإن كان
يتفاوت فى الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله عز وجل".
أى
لاتشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والتقرب بالصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة
المشهورة لتعظيمها بالصلاة فيها، وهذا التقدير لابد منه وإلا فهم من الحديث المنع
لشد الرحال لأى غرض آخر على الإطلاق، وهذا محال لأن الرحال تشد للتجارة وحوائج
الدنيا ولا يحرم هذا، فالمعنى واضح لكل ذى لب مبرأ من الغرض الفاسد.
وقال الإمام فخر الدين الشيخ محمد عثمان عبده البرهانى فى كتابه إنتصار أولياء
الرحمن على أولياء الشيطان: "وشبهة هؤلاء المانعين للتوسل أنهم رأوا بعض العامة
يتوسعون فى الكلام ويأتون بألفاظ توهم أنهم يعتقدون التأثير لغير الله تعالى،
ويطلبون من الصالحين أحياء أو أمواتاً أشياء جرت العادة بأنها لا تطلب إلا من الله
تعالى، ويقولون للولى افعل كذا وكذا، وربما يعتقدون الولاية فى أشخاص لم يتصفوا
بها، بل اتصفوا بالتخليط وعدم الإستقامة وينسبون لهم كرامات ليسوا بأهل لها ...
فإنما أراد هؤلاء المانعون للتوسل أن يمنعوا العامة من تلك التوسلات دفعاً للإيهام
وسداً للذريعة ... فنقول لهم إذا كان الأمر كذلك فما الحامل لكم على تكفير الأمة
عالمهم وجاهلهم، وخاصهم وعامهم، وما الحامل لكم على منع التوسل مطلقاً؟ بل كان
ينبغى لكم أن تمنعوا العامة من الألفاظ الموهمة وتأمروهم بأسلوب الأدب فى التوسل،
مع أن تلك الألفاظ الموهمة يمكن حملها على الإسناد المجازى مجازا عقلياً، كما يحمل
على ذلك قول القائل: هذا الطعام أشبعنى وهذا الماء أروانى، وهذا الدواء أو الطبيب
نفعنى ... وأما منع التوسل مطلقاً فلا وجه له مع ثبوته فى الأحاديث الصحيحة وصدوره
من النبى
وأصحابه وسلف الأمة وخلفها ...".
·
أما شبهة المخالفين فى منع الزيارة للمساجد التى بها قبور الصالحين استناداً لحديثه
:
(لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا من قبور أنبيائهم مساجد)؛ فقد أورد الإمام تقى
الدين السبكى فى الرد على ذلك: "... تخيل ابن تيمية أن منع الزيارة والسفر إليها من
باب المحافظة على التوحيد وأن فعلها يؤدى إلى الشرك، وهذا تخيل باطل لأن إتخاذ
القبور مساجد يعنى السجود عليها والعكوف عليها وتصوير الصور فيها وهو المؤدى إلى
الشرك، ... أما الزيارة والدعاء والسلام فلا يؤدى إلى ذلك ولهذا شرعه الله تعالى
على لسان رسول الله
لما ثبت من الأحاديث المتقدمة عنه
قولاً وفعلاً وتواتر ذلك وإجماع الأمة عليه. فلو كانت زيارة القبور من التعظيم
المؤدى إلى الشرك كالتصوير ونحوه لما شرعها الله تعالى فى حق أحد من الصالحين
ولافعلها النبى
والصحابة فى حق شهداء أحد والبقيع وغيرهم ...".
·
وأما الصلاة فى مساجدهم التى تحتوى على أضرحتهم فلا غبار عليها، حيث أن أضرحتهم
محددة ومسورة ولا يستطيع أحد أن يصلى عليها وهو المحرم كما ذكرنا لقوله
:
(جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا إلا المقبرة والحمام)
-أخرجه
الترمذى-
والمقبرة هى محل القبر ذاته وهى ممنوعة على مقابر الصالحين للتعظيم، ولباقى بنى آدم
للنجاسة ومثلها الحمام، وأما ما حولها فلا شبهة فيه، وإلا منعت الصلاة فى المنزل
لأن فيه حمام، وهناك أيضا الحديث الذى يقول: (جعلت
لى الأرض مسجدا وطهورا)
على الإطلاق بمعنى كل الأرض بلا استثناء ويقول القرطبى أنه ناسخ لغيره، والمعنى أن
يكون الأصل فى الأرض أنها مسجدا وطهور ما لم تخالطها نجاسة، وبالتالى فالصلاة فى
المساجد التى بها أضرحة صحيحة تماما.
·
وقد
أورد الإمام فخر الدين فى كتابه إنتصار أولياء الرحمن واقعة طريفة أبان فيها
ببساطته المعجزة عن جوهر المسألة فقال: "وقد سألنى سائل منهم بقوله: ياسيدى الشيخ
أأترك الله وأذهب لسيدنا الحسين؟ فقلت له: فى أية جهة تركت الله تعالى؟ ... فسكت.
فقلت: من خلق الحسين؟ فقال: الله، فقلت له: من أوجد فيه هذه النعمة والمزية التى
لايشاركه فيها غيره؟ فقال: الله. فقلت له: من يعطنى سؤالى عنده؟ فقال: الله فقلت:
من حببنى فيه ورغبنى فيه وفى التوجه إليه؟ فقال: الله. قلت له: إذاً أنا ذاهب إلى
الله؛ أى إلى مصدر من مصادر نعمه التى أوجدها لعباده فى مكنوناته وأمرهم بالتوجه
إليها". |