الأخت الفاضلة
عذرا لك فما قصدنا أن تمتنعى عن الدعاء ولكن أن تجملى فيه كما ذكرت وأن كنا نريدك أن تفهمى معنا من كتب التفسير معنى الإجمال فى الدعاء.
فما يعنيه الحديث أنك ستأخذين نصيبك من الدنيا سواء حرصت عليه واهتممت به أم لم تحرصى.
ونحن نحترم تماما ما تريدين من دنياك ولا حرج عليك فى الدعاء ولكن انظرى معنا الآتى:
قال رسول الله : (ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب
له من الدنيا وهي راغمة(،
والمعنى هنا أن لن يزيدك حرصك على الدنيا شيئا منها ولن ينقصك إعراضك عنها شيئا.
وفى الحدّيث عن هِشَامُ بْنِ عَمَّارٍ. حدّثنا إِسْماَعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ. عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ رَبِيعَةَ ابْنِ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمنِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيد الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ؛ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللّهِ : (أَجْمِلُوا فِي طَلبِ الدّنْيَا فَإِنَّ كُلاَّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ).
[قال أَبِي شَيْبَةَ - (أجملوا فِي الطلب) أجمل فِي الطلب، إذا اعتدل ولم يُفرِط. (مُيَسَّر) أي مُهَيَّأ].
ومن كتاب الإمام المناوى (فتح القدير فى شرح الجامع الصغير)
و(أجملوا) بهمزة قطع مفتوحة فجيم ساكنة فميم مكسورة (في طلب الدنيا) أي
اطلبوا الرزق طلباً جميلاً بأن ترفقوا أي تحسنوا السعى فى نصيبكم منها بلا كد وتعب ولا تكالب وإشفاق. قال الزمخشرى: أجمل في الطلب إذا لم يحرص والدنيا ما دنا من النفس من منافعها وملاذها وجاهها عاجلاً فلم يحرم الطلب بالكلية لموضع الحاجة بل أمر بالإجمال فيه
وهو كان جميلاً في الشرع محموداً في العرف فيطلب من جهة حله ما أمكن. ومن إجماله اعتماد الجهة التي هيأها الله ويسرها له ويسره لها فيقنع بها ولا يتعداها ومنه أن لا يطلب بحرص وقلق وشره ووله حتى لا ينسى ذكر ربه ولا يتورط في شبهة فيدخل فيمن أثنى الله تعالى
عليهم بقوله تعالى ﴿رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله﴾ الآية ثم بين وجه الأمر بذلك بقوله (فإن كلاً) أي كل أحد من الخلق (ميسر) كمعظم أي مهيأ مصروف (لما كتب) قدر (له منها) يعنى الرزق المقدر له سيأتيه ولا بد فإن الله تعالى قسم الرزق وقدره لكل أحد
بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه الأزلى وإن كان يقع ذلك بتبديل في اللوح أو الصحف بحسب تعليق بشرط وقال أجملوا وما قال اتركوا إشارة إلى أن الإنسان وإن علم أن رزقه المقدر له لا بد له منه لكن لا يترك السعى رأساً فإن من عوائد
الله تعالى في خلقه تعلق الأحكام بالأسباب وترتيب الحوادث على العلل وهذه سنته في خلقه مطردة وحكمته في ملكه مستمرة وهو وإن كان قادراً على إيجاد الأشياء اختراعاً وابتداعاً لا بتقديم سبب وسبق علة بأن يشبع الإنسان بلا أكل ويرويه بغير شرب وينشئ الخلق بدون
جماع لكنه أجرى حكمته بأن الشبع والرى والولد يحصل عقب الطعم والشرب والجماع فلذا قال أجملوا إيذاناً بأنه وإن كان هو الرزاق لكنه قدر حصوله بنحو سعى رفيق وحالة كسب من الطلب جميلة فجمع هذا الخبر بالنظر إلى السبب والمسبب له وذلك هو الله والرزق والعبد
والسعى وجمع بين المسبب والسبب لئلا يتكل من تلبس بأهل التوكل وليس منهما فيهلك بتأخر الرزق فربما أوقعه في الكفر ولئلا ينسب الرزق لسعيه فيقع في الشرك فقرن في الخطاب بين تعريف اعتلاق الأشياء بالمسبب اعتلاقاً أصلياً واعتلاقها بالسبب اعتلاقاً شرعياً
ليستكمل العبد حالة الصلاح مستمرة وتثبت له قضية الفلاح مستقرة وقد عرف مما سبق أن من اجتهد في طلب الدنيا وتهافت عليها شغل نفسه بما لا يجدى وأتعبها فيما لا يغنى ولا يأتيه إلا المقدور فهو فقير وإن ملك الدنيا بأسرها فالواجب على المتأدب بآداب الله تعالى أن
يكل أمره إلى الله تعالى ويسلم له ولا يتعدى طوره ولا يتجرأ على ربه ويترك التكلف فإنه ربما كان خذلاناً ويترك التدبير فإنه قد يكون هوانا:
والمرء يرزق لا من حيث حيلته
ويصرف الرزق عن ذى الحيلة الداهى
وقال بزرجمهر: وكل الله تعالى الحرمان بالعقل والرزق بالجهل ليعلم أنه لو كان الرزق بالحيل لكان العاقل أعلم بوجوه مطلبه والاحتيال لكسبه. التقى ملكان
فتساءلا فقال أحدهما أمرت بسوق حوت اشتهاه فلان اليهودى وقال الآخر أمرت باهراق زيت اشتهاه فلان العابد. والمعنى هنا أن اليهودى سيرزق ما يشتهى والعابد لن يرزق ما يشتهى فالرزق ليس بالعبادة. ولذلك يقول رسول الله
: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)
انتهى كلام الإمام المناوى.
وروى الطبراني مرفوعا، قال الحافظ المنذري وهو أشبه: (لو اجتمع الثقلان الجن والإنس على أن يصدوا عن العبد شيئا من رزقه ما استطاعوا)، وروى ابن حبان في
صحيحه: (أن رسول الله دعا حسنا وسوَّاراً ابني خالد وقال: لا تيأسا من الرزق، ما تهزهزت رؤوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر وهو ليس
عليه قِشْرٌ، ثم يعطيه الله ويرزقه).
والأحاديث في ذلك كثيرة.
ويقول الإمام الشعرانى فى كتابه العهود المحمدية:
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله ) أن نجمل في طلب أرزاقنا ولا نقعد للرزق كل مرصد إيمانا بأن ما قسمه الله تعالى لنا لا يقدر أهل
السماوات وأهل الأرض أن يردوا عنا منه ذرة، كما أن ما لم يقسمه الحق تعالى لنا لا يقدر أحد أن يوصل إلينا منه ذرة، وكان على هذا القدم أخى العبد الصالح الشيخ عبد القادر شقيقى رحمه الله، كان يزرع القمح والفول والسمسم وغير ذلك مع الشركاء، فلا يعرف أين هو الطين الذي زرع ذلك فيه، ولا أين وضعوه في الجرن، فلا يزال كذلك حتى يدرسوه ويذروه في الريح ولا يحضره
إلا وهو داخل الدار فمهما أعطاه الشركاء قبله منهم من غير أن تحدثه نفسه بمحاسبتهم، وأرسلت له مرة أن يوقف على مقثأة بطيخنا الذي نزرعه في الجزيرة قريبا منه حارسا يحرسه حتى نرسل له المركب نوسقه فأبى وأرسل يقول
لى: وبعد، فإن ما قسم الله لأهل الريف أن يأكلوه لا يقدر أحد من أهل الريف أن يحمل منه شيئا إلى مصر،
وما قسمه الله لأهل مصر لا يقدر أحد من أهل الريف أن يأكل منه شيئا، فلا حاجة إلى حارس، فقلت له فى ذلك تعطيل الأسباب، فقال: لا تعطيل إن شاء الله تعالى، فإن الحارس إنما جعل لطمأنينة قلب المتزلزل في إيمانه بأن ما قسمه الحق تعالى له لا يمكن أن غيره يأخذه
وأنت بحمد الله إيمانك صحيح فلا حاجة لحارس اهـ. فعلم أن من تحقق بهذا الإيمان لا يحتاج قط
إلى غلق بابه على شيء من حوائجه، إلا من حيث منع اللصوص عن السرقة لما عنده من أموال الناس ومساعدته لهم بعدم غلق الباب، فإنه إذا غلقه عسر عليهم الوصول إلى ما يسرقونه، وكذلك إذا كان يأكل الدجاج المحشو أو الكلاج واللوزينج ونحو ذلك لا يحتاج إلى غلق بابه
خوفا من أحد يدخل.
وقد وقع لي مرة أنني كنت آكل في الدجاج أنا وأخي الشيخ العالم الصالح العلامة نور الدين
الطنتتائى، فسح الله في اجله، فقلت: هذا وقت مجيء الشيخ الصالح شمس الدين الخطيب الشربيني، وكان بيننا
نحن الثلاثة صداقة وود، فقال لي الشيخ نور الدين أغلق الباب لئلا يجيء الخطيب فيأكل دجاجنا، فقلت له: لا يخلو الحال من أمرين إما أن يكون قسم له أكله فلا يمكننا منعه ولو قفلنا الباب جاء من الحيط، وإما أن لا يكون قسم له معنا أكل فلا نحتاج إلى غلق باب،
فقال: أغلق الباب وخذ في الأسباب، فقلت له: ما دليلك في ذلك؟ فقال حديث: (اعقل وتوكل). فقلت له: ذلك في حق من يخاف فوات شيء هو له، وأنا لا أخاف من ذلك. فقال: تمنعه من الأكل حتى تحرر نيتك في مسامحته بما يخصك من الدجاجة، فقلت له: قد سامحته من قبل أن يدخل،
وإذا كان خاطر الإنسان طيبا منشرحا لما يأخذه اللص فلا تحريم على اللص إلا من حيث القصد للحرام لا من حيث أكله الطعام مثلا، لأن تحريم الأكل عليه إنما كان لأجل الأذى وعدم طيب النفس، بدليل قرائن أدلة الشريعة، فسكت الشيخ نور الدين، ثم دخل الشيخ الخطيب وأكل
ما قسم له .
فإياك يا أخي أن تزاحم على رزق بحيث تؤذي أحدا في طريق تحصيله، واعمل على جلاء مرآة قلبك من الصدأ والغبار المانع من تحقيق الإيمان على يد شيخ صادق
ليخرجك من حضرات الأوهام إلى حضرات اليقين، بحيث تصير لا تهتم بالحضور إلى محل تفرقة السلطان مثلا مالا على العلماء والصالحين، ولا تتأثر على فوات ذلك إذا نسوك، ولا تتأثر من منعهم أن يكتبوا اسمك، ولا ممن قال لهم امسحوا اسم فلان بعد الكتابة لأنه غني غير
محتاج إلى مثل ذلك أو قال لا تعطوه إلا إن حضر فإنه كبير النفس يحب الضخامة، ونحو ذلك.
فامتحن يا أخي نفسك في إيمانك فقد أعطيتك الميزان وأنت أعرف بنفسك، فإن رأيتها تأثرت ممن منعها فالواجب عليك أن تتخذ لك شيخا يرقيك إلى حضرات اليقين،
فإنك متمكن من ذلك ولا تتعذر بعذر فتموت على نقص في إيمانك، فكم قتل الناس بعضهم على تحصيل الدنيا فضلا عن ترك المزاحمة عليها، ولو أن إيمانهم كان كاملا لم يفعلوا شيئا من ذلك.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: الرزق في طلبه صاحبه دائر والمرزوق في طلب رزقه حائر وبسكون أحدهما يتحرك الآخر. وكان كثيرا ما يقول: لأن تجيء
إلى ربك وأنت كامل الإيمان مع النقص في الأعمال خير لك من أن تأتي بعبادة الثقلين وفي إيمانك ثلمة، فإن السعادة دائرة مع كمال الإيمان وصحته اهـ.
ويتعين السلوك قولا واحدا على كل تاجر حصل عنده حزازة في صدره بكثرة وقوف الزبونات على جاره دونه، وكذلك يتعين على كل عالم أو شيخ حصل عنده حزازة بكثرة
المريدين لأحد من أقرنه أو بتركهم درسه واجتماعهم على غيره، بحيث لم يبق عنده أحد من الطلبة أو المريدين أن يتخذ له شيخا يسلك على يديه، حتى يرقيه إلى درجة الإخلاص، بحيث ينشرح لكل من تحول من طلبته إلى غيره، فمن تكدر من طلبته إذا تحولوا عنه فليس له في
الإخلاص نصيب كما صرحت به الأخبار، والله يتولى هداك. ﴿والله يَهْدِي مَنْ يَّشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
انتهى كلام الإمام الشعرانى. |