أولا: يا أخى الفاضل اسمح لنا أن نسوق إليك هذا التقديم البسيط:
يقول الشيخ
:
عم البلية هجر من لا يفقهوا |
|
لكـتاب رب عـالم علام |
والإحتكام لغير أرباب الهدى |
|
كعـبادة الأوثان والأصنام |
إحذر
يا أحى فقد ساد فى هذا الزمن تفسير بعض الجهال لحال العلماء وكلامهم مستخدمين فى
ذلك ضعف منطقهم وقلة خبرتهم مما أدى إلى ظهور كلام مخرف لا صحة له ولا واقع ولا
ارتباط له بدين ولا دنيا، والعجب العجاب أنهم يتحرون علم وحال الأولياء فى محاولة
منهم لإثبات أنهم ليسوا على شيئ.
وقديما قال الصالحون: (كشف العلم على غير أهله عورة).
ومولانا الإمام على زين العابدين إبن الإمام الحسين
يقول:
يارب جوهر عـلم لو أبوح به |
|
لقيل أننى ممن يعـبد الوثن |
ولاستحل رجال المسلمين دمى |
|
يرون أقبح ما يأتونه حسنا |
والقول هنا أن المسلمين الذين لم يدخل الإيمان فى قلوبهم بعد سيرون هذا العلم
النفيس كفرا يستحلوت دمى بناء عليه ولا يستطيعون أن يميزوا الخبيث من الطيب، فيرون
قبيح أعمالهم حسنا.
ثانيا: إليك بعض القصص لتستشف منها الفكر الصوفى فيما يتعلق بالأمور الشرعية:
1-
روى الإمام الشافعى
أنه تقابل مع الإمام الجنيد فى الشام فقال له
الإمام الجنيد
: بلغنى يا ابن إدريس أنك تمنع مريديك من أن يذكروا الله؟ فقال
الشافعى للإمام الجنيد: وماقولك يا أبا القاسم فيمن يقول أنك تمنع محبيك من أن
يتفقهوا فى دينهم؟ فقال الجنيد: أعوذ بالله من ذلك (من تحقق ولم يتشرع فقد تفسق)
وبينما السر السقطى كان يستمع إلى هذه المحاورة فتدخل قائلاً: (ومن يجمع بينهما فقد
تحقق).
2- فى ذات الصدد يوصى سيدى إبراهيم الدسوقى
مريديه قائلاً:
وأوصيت أتباعى بأن يتشرعوا
|
|
ومن بعد هذا يهتدوا بالحقيقة |
3- يقول
أيضاً سيدى إبراهيم الدسوقى
:
الشرع باب والحقيقة دار.
4-
وكان
يقول
أيضاً
:
"من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق .. ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق .. ومن جمع بينهما
فقد تحقق"
5-
ويقول أيضا سيدى إبراهيم الدسوقى
:
أن أول الحقيقة الشريعة ... لأن الشريعة مضمونة، قال رسول الله
:
(أتيتكم الشريعة حنيفية بيضاء نقية) فإذا أمسك وتمسك بها أولوا الألباب أفادتهم
الحقيقة، لأن الشريعة هى الشجرة والحقيقة هى الثمرة وهى المعرفة، فإذا تمسك المبتدئ
حال بدايته بالشرائع فى الأمر والنهى والزجر أفادته الحقيقة عن أصل ثابت وفرع نابت.
6-
وعمدة
الأحاديث التى يتبعونها وتصف حالهم؛ هو حديث أبى هريرة عن المصطفى
:
(إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى
بشيئ أحب إلى مما افترضت عليه، وما يزل عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى
يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شيئ أنا فاعله
ترددى عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)-
من البخارى،
فانظر كيف كان الاجتهاد فى النوافل بعد تمام الفرائض.
ثالثا: يقول بعض الناس لماذا التصوف ولم يكن ظاهرا على عهد الصحابة أو التابعين
فنسوق إليهم التالى:
1-
يقول
سيدى إبراهيم الدسوقى
: (لو أن الناس أتوا العبادات والمأمورات
الشرعية بغير علَّة كما أمرهم الله تعالى لاستغنوا عن الأشياخ، ولكنهم أتونا بعللٍ
وأمراض فاحتاجوا إلى الحكماء حتى يحصل لهم الشفاء).
2-
ومن هنا استغنى
الصحابة والتابعون عن الخلوة والرياضة (وهى مجاهدات صوفية لتهذيب النفس وتقويمها)
كما عليه المتصوفون، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أوالتابعون أنه دون شيئا فى علاج
الأمراض الباطنة لانعدامها فى عصرهم أو قِلِّتها جدّاً حتى لا تكاد توجد، وكان معظم
اجتهادهم إنما هو فى جَمْعِ الأحـاديث الشريفة والمطابقة بينها وبين الكتاب العزيز
وهذا أهم من اشتغالهم بعلاج أمراض لا توجد، ولو علموا أن فيهم شيئا من ذلك (كالعجب
والرياء والحقد والحسد ...) لقدَّموا علاجَه على سائر الأعمال من باب ’ما لا يتم
الواجب إلاَّ به فهو واجب’. قال تعالى: ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له
الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة﴾
البينـة 5
–
منقول
من كتاب "أئمـة الفقه التسعة".
الخلاصة:
من كان هذا حالهم فلا تظن أنهم يأتى عليهم وقت فيتخلون عن الشرع جهلا أو كسلا،
ببساطة لأنهم لا يزيدهم الوقت والعبادة إلا همة وإقبالا على الله (وبالطبع فكل من
يعبد الله حق عبادته يعرف ذلك – حيث يقول الصالحين لا تورث الهمة إلا همة ولا يورث
الهم إلا هما).
وبمعنى أنهم عرفوا حقيقة العبادة فأصبحت لهم تلذذ وتقرب بل إنها أصبحت حياتهم كلها
بجميع حركاتها وسكناتها.
أما ما تسأل عنه من قول سيدى ابن عربى (فكيفما كانت العبادة وعلى اى طريقة هى
صحيحة) فالمؤكد كل التأكيد أن قصور علم وسوء نية من أشار عليك بذلك هو الذى هداه
إلى التفكير فى هذه العبارة على أنها تهدف إلى إلغاء علم الفقه والعبادات، ولكن
لننظر إلى هذه العبارة بحسن النية وبالخلفية التى عرضتها عليك، ودعنا نتدبر سويا:
أولا:
يشير
سيدى ابن عربى إلى حديث المصطفى
:
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) بمعنى أنه عندما تنعدم لديك الوسيلة
لمعرفة الكيفية الصحيحة للعبادة فإن الله يقبلها منك بنيتك كيفما أديتها.
ثانيا: أن الصوفية كل أعمالهم عبادة، ولا يسعون لشيئ غير العبادة، ونيتهم وهمتهم
دائما وأبدا فيها؛ فأكلهم عبادة لأنهم لا يأكلون إلا ليتقوتون على العبادة، وعملهم
عبادة لأنهم لا يعملون إلا ليستغلوا ناتج عملهم فى العبادة، ... وهكذا ... فيكون كل
ما يأتونه وكيفما يأتونه فهو عبادة، وهذا لا يعنى أنهم يؤدون الفرائض بطريقة غير
صحيحة.
ثالثا: أن محاولة فهم علم سيدى ابن عربى وتفكيره من إحدى العبارات التى قالها، بدون أن نفهم ما
قبلها وما بعدها، ودون أن نقرأ علمه ونتبحر فيه، يكون كمثل الذى يبتر الآيات فلا
يفهم من معناها إلا عكسه، كمن يقف عند قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ﴾ ... وكأن الله يأمر المؤمنين بعدم الاقتراب
من الصلاة... حاشاه، ولكنه إذا أتم الآية فهم المعنى وعرف أن سبب الأمر ﴿وَأَنتُمْ
سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾، ولكنه إذا وقف عند حدود هذه
الآية فقط فإن هذا يعنى أنهم يمكنهم أن
يسكروا فى غير وقت الصلاة، فإن تبحر فى علم القرآن أكثر سيعلم أن هذه الآية نسخت
بقوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾، بمعنى أن الخمر محرمة حرمة مغلظة لا تهاون فيها، ومحرم
حتى الاقتراب منها، فانظر كيف تغير فهم الجملة بتغير مستوى العلم.
وللتأكيد على ما ذكرناه من اتساع عمل الصوفية عن الوقوف عند حد العبادة المفروضة
نسوق إليك القصص التالية:
1-
كان
الإمام
الشافعى والإمام أحمد
سائرين فوجدا راعيا للغنم هو سيدى شيبان الراعى وهو يسوق غنمه، فقال الإمام أحمد
للإمام الشافعى: هذا الرجل ليس لديه وقت لمعرفة أمور دينه فوجب علينا أن نعلمه،
فقال الإمام الشافعى: أنى أرى عليه آثار الصوفية فلا تسأله، فألح عليه الإمام حمد،
فقال له: اسأله، فقال الإمام أحمد للراعى: السلام عليكم، فرد عليه: عليكم السلام،
قال له: انت تسوق الغنم طول النهار ألا تأتى المسجد لتتعلم من أمور دينك، فقال له:
من قال لك أنى لا أعرف؟ قال له: أتعرف الصلاة إذا سهوت فيها فزادت أو نقصت فكيف
تجبرها؟ فقال له: عندنا أم عندكم، قال له: وهل هما اثنين؟ فقال له: نعم، عندكم إذا
كان السهو بالزيادة، تسجد له بعد السلام سجدتين، وإذا كان بالنقص، تسجد له قبل
السلام سجدتين، أما عندنا فالقلب إذا غفل عن سيده يقطع ويهجر، فقال له: أتعرف كم
زكاة الغنم الذى ترعاه؟ فقال له: نعم عندكم تخرجون على الأربعين واحد، أما عندنا
فالعبد وما ملكت يداه لسيده.
2-
قال
شقيق البلخى لمعروف الكرخى: كيف حالكم ياكرخى؟ قال: إن وجدنا أكلنا، وإن لم نجد
صبرنا، قال: هذا حال كلاب بنى بلخ ... فقال معروف الكرخى لشقيق البلخى: وكيف
أحوالكم يابلخى؟ قال: إن وجدنا آثرنا وإن لم نجد شكرنا ...
3-
فهكذا
مطلب
الصوفية فى أحوالهم،
كما كان النبى
ومن كان معه ... ان هؤلاء هم مصدر الصوفية وكما
قال أبو هريرة
حين سئل: ألم تتخذ لك منزلا فى الدنيا؟ قال: وهل أنا
مجنون؟ قيل له: كيف ذلك؟ قال أرأيت لو نزل رجل بلد لقضاء حاجة ويرتحل عنها هل يبنى
له بيتا للإقامة؟ قيل: لا ... قال: ونحن مرتحلون من هذه الدنيا فكيف نوطد وندعم
فيها ونحن مفارقوها ... وهكذا كان أشباهه الكثير من خيرة الصحابة كسيدنا حذيفة وابن
مسعود وغيرهم من أجلاء الصحابة.
4-
وجاء
فى مجمع الزوائد عن علقمة بن علقمة قال: دخلت علىَ على
فإذا بين يديه طعام خشن فقلت: ياأمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال: كان رسول الله
يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا، فإن لم آخذ نفسى بما أخذ به نفسه خفت أن لا
ألحقه ...
5-
هذا هو حال
الصوفى كحال المستعد للسفر فليس له اطمئنان فى الدنيا إلا برضوان الله تعالى عنه
فيها. فالتصوف كما يقول سيدى فخر الدين بإيجاز هو سلوك وآداب وتخلق فى الحال
والمقال، وكما يقول أحد الصوفية عنهم:
دخلوا فقراء إلى الدنيا |
|
وكما دخلوا منها خرجوا |
فكيف لهؤلاء أن يتخلوا عن الشرائع أو يتهاونوا فيها، فلتنظر سيدى الفاضل ولتفهم
كلامهم ولا تلتفت إلى من لا يفهمون. |