|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
المجـلة |
المجلة البرهانية |
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
1 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
كلمة العدد :: حكمة العدد :: وقفات :: الدين النصيحة :: خدعوك فقالوا تعم المشرقين :: صحابة أحمد :: ركن المرأة :: ركن الشباب :: ركن الطفل
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
ركن الشباب |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
حب الوطن
... هو تلك الكلمة الساحرة التى تثوب إلى صداها العذب آلاف الأمواج ... الحائرة من الذكريات الجميلة والآمال البريئة الهائمة فى بحر الحياة الهادر. ثلاثة أحرف ككلمة السر التى ينفتح لدى ذكرها كنـزٌ ثرى من المشاعر الدافقة والشوق الحنون، إنها مرآة البلور فى قصص الأساطير نطالع فيها صور أحبابنا الماضين وأحلامنا على مر السنين ... ، هى كلمة ما أسهلها فى منطق اللسان وما أحفلها بالمعانى فى لغة الوجدان، إنها أرض وسماء، وأحباب وأصدقاء، يأس ورجاء، وعبير آلاف اللحظات فى خفقة عينين فى لقاء، إنه شغل النفس التى لا تشبعها - مهما كثرت - أهواء، ولا ترضيها - مهما عظمت - لذات وألاء ... وطنى لو شُغِلت بالخُلد عنه نازعتنى إليه فى الخلد نفسى فالوطن هو تجسيد لأمانى النفس ودواعى الأنس الأولى التى عرفت ميلادها الأول البرئ فى ربوعه ومغانيه. ومحبة الوطن من المروءات، والشوق إليه من صفات الكمالات وليس من دليل على ذلك أمثل من الإستشهاد بأعظم من وطئوا على أرض وأظلتهم سموات: سيد الوجود محمد عليه أفضل الصلوات والتسليمات؛ ومما روى أن أبان قدم على النبى فقال : (يَا أبَانُ كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ؟) قال : تَرَكتُ الأَذْخُرَ وَقَد أَعذَقَ، والنَّمَامَ وَقَدْ أَوْرَق، فَاغْرَوْرَقَت عَيْنا رَسُولِ اللهِ . أرأيت أيها الشاب كيف كان حنينه لمكة والذى تفيض لآلئ دمعه لمجرد ذكر لمحات من شجرها وإيناع ثمرها ... ، وها هو الشوق أيضا قد هاج بقلب سيدنا بلال حين تذكر مكة وجبالها ونجومها فقال: ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولى أذخُـرٌ وجليلُ وهل أرِدنَ يوماً ميـاه مجنـة وهل يبدون لى شامةٌ وطفيلُ ومن كلام حكماء القدماء: ’أن من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها توَّاقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة‘، وحكى الجاحظ: أن النفر فى زمن البرامكة كان إذا سافر أخذ معه من تربة أرضه فى جرابٍ يتداوى بها ... ، فانظر ما أوثق حبهم لبلادهم وتعلقهم بها حتى كأن ترابها المحمول كان دواء لسقم حنينهم إليها، بل ودواء لكل داءٍ أصابهم: لشدة اعتقادهم فيه؛ فقد كان رسول الله يقول أنه لو اعتقد أحدكم فى حجر لنفعه. ومن عجيبٍ أن الوطن لا يُحَب لأنه أطيب البلاد وأهله أرق الناس فى الوداد ... ، بل يُحَب على مرارة تربتـه وظلم قرابته؛ كما قال الشاعر: بِلاَدِى وإن جَارَت علَىَّ عَزيزةٌ وأَهْلِى وَإِن ضَـنُّوا عَلىَّ كِـرَامُ وما أحسن ما قال بعضهم: بلادٌ ألفنـاهَـا عَلى كُل حَالـةٍ وقَد يُؤلَف الشئُ الذى ليسَ بالحَسَنِ وتُستعذَب الأرضُ التِى لاَ هَوا بها ولا ماؤهَـا عَـذبٌ ولكِنها وطـنُ إن الوطن هو مستقر الروح ومهوى الفؤاد، إنه نبع كل شوقٍ مبهم لا يحده الزمن، إنه كل ما يميل القلب إليه إن اضطرب أو سكن بل كل ما تهفو النفس للقرار فيه: إنما هو وطن فى المجاز وإن لم يكن محدودا بمقاييس وحِياز، ولذلك كان آدم عليه السلام وطن حواء، وكانت المدينة وطن الإيمان واليمن وطن الحياء، فما أحزن الغريب الذى نزع عن وطنه الحقيقى ولو أضحى فى أعرض الجاه والثراء. وغربة أهل الفضل أقسى على النفس من غربة الأوطان؛ فذوى الفضل؛ بين قوم أدنياء ينكرونهم هم غرباء بينهم ولو كانوا من أقرب القرباء، إنها غربة كل قلبٍ رقيق بين قلوب تحركها الشهوات فلا تعرف غير الأنانية وحب الذات ...إنها غربة المؤمنين حقا؛ المحبين المتبتلين؛ الذين تخلقوا بقول النبى : كن فى الدنيا كغريب أو عابر سبيل، ... انهم المحبون المشتغلون بذكر الله فى جميع أحوالهم؛ تتجافى جنوبهم عن المضاجع شوقا إلى محبوبهم، فلا يأنسون بغيره ولا يسعدون إلا بذكره، فهم كالغرباء فى كل وطن؛ يستوحشون من الخلق والسكون إليهم، لا يقيدهم شئ سوى ما أمر به الشرع، إمتلأت قلوبهم بالنور وانشرحت صدورهم بالحب، سمت منهم النفوس فترفعت عن شهوات الدنيا وأطماعها؛ فلم يأبهوا إلا بما فيه رضاء محبوبهم الأتم الأكمل: المصطفى والمقتدى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فحنينهم إليه دائم فى كل حال؛ شوقا وأملا فى وصاله؛ فكان بحقٍّ حالهم على ما قد وصفه الإمام فخر الدين حين قال: طعِموا غراما والصبابة مشربٌ والحب سلواهم ظموا أو جاعوا باتـوا وعين الله ناظـرةٌ لهم إن يفـزع الثقـلان لا يرتاعوا إنهم الغرباء حقا عن عالمنا وأوطانه ، فهل تعلم من هم يا أخى الشاب؟ إنهم أهل الله وخاصته فى كل زمان ومكان ، أرواحهم متعلقة به وبملئه الأعلى ولا تهتز إلا حين يحدوها شوق القرب إليه، ولله در القائل: أما تنظر الطير المُقفّص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنىَ يُفـرِّج بالتغـريد ما بفؤاده فيُقلِق أرباب العقول إذا غَـنىَّ كذلك أرواح المحبـين يا فتى تُهزهزها الأشواق للعالم الأسنىَ فيا أيها الشاب : اغتنم أيامك فى التقرب إليه سبحانه وأقبل عليه بكليتك فستأنس عندئذ به وحده فى وحدتك، فبشرى لهم هؤلاء الغرباء المحبين، فليس غدا غيرهم من آمنين . |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||